فصل: (سورة الأعراف: الآيات 171- 173)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة الأعراف: الآيات 171- 173]

{وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173)}.

.اللغة:

{نَتَقْنَا}: نتق قلع ورفع، ومنه نتق السقاء إذا نفضه ليقتلع الزبدة منه. هذا وقد اختلف عبارات أهل اللغة في النتق، فقال أبو عبيدة: هو قلع الشيء من موضعه والرمي، ومنه نتق ما في الجراب:
إذا نفضه فرمى ما فيه، وامرأة ناتق ومنتاق: إذا كانت كثيرة الولادة.
وفي الحديث: «عليكم بزواج الأبكار، فإنهن أنتق أرحاما، وأطيب أفواها، وأرضى باليسير». وقيل: النتق: الجذب بشدة، ومنه نتقت السقاء إذا جذبته بشدة لتقتلع الزبد من فمه. وقال الفراء: هو الرفع. وقال ابن قتيبة: هو الزعزعة. على أن هذه الاختلافات ترجع إلى معنى واحد. والذي يلفتت النظر هو أن النون والتاء متى استعملا فاء وعينا للكلمة، فإن المعنى يحوم حول النزع والقلع والإخراج، وسنعرض كعادتنا، تركيب هذين الحرفين، فمن ذلك نتأ بمعنى رمى، ونتأ ثدي الجارية بمعنى برز ونهد، ونتأ الشيء: خرج من موضعه من غير أن ينفصل، ونتجت الناقة: وضعت ولدها، ومن المجاز:
الريح تنتج السحاب، قال الراعي:
أربّت بها شهري ربيع عليهم ** جنائب ينتجن الغمام المتاليا

وفي المثل: إن العجز والتوائي تزاوجا فأنتجا الفقر. وهذه المقدمة لا تنتج نتيجة صادقة إذا لم تكن لها عاقبة محمودة، ونتح العرق من مناتحه، ورشح من مراشحه، وتتخت الشوكة من رجلي بالمنتاخ: أي بالمنقاش، ونتخ البازي اللحم بمنسره، ونتخ فلان من أصحابه نزع منهم، ونتخته المنية من بين قومه، ونتر الثوب: جذبه في شدة، ونتر الوتر مدّه حتى كاد ينكسر القوس، وفي الحديث: «إذا بال أحدكم فلينتر ذكره ثلاث نترات»، ونتش الشوكة بالمنتاش، ونقشها بالمنقاش، وما نتش منه شيئا ما أخذ، وهو ينتش من كل علم، ونتف شعره وانتتفه، وفلان منتوف: مولع بنتف لحيته. ومن المجاز: أعطاه نتفة من الطعام وغيره: شيئا منه، فقول العامة: نتفة، صحيح ولكن بضم الميم، وكان أبو عبيدة يقول في الأصمعي: ذاك رجل نتفه. ونتن الشيء: ارتفع نتنه، وفي الحديث: «إذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته فليذكر مناتنها»، وهذا من دقائق العربية، فتدبره.
{ظُلَّةٌ} الظّلة: بضم الظاء كل ما أظلك من سقيفة أو سحاب.

.الإعراب:

{وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} الواو عاطفة، وإذ ظرف زمان متعلق باذكر المحذوفة والمعطوفة على ما تقدم، وجملة نتقنا في محل جر بالإضافة، ونا فاعل، والجبل مفعول به، وفوقهم ظرف مكان متعلق بمحذوف على أنه حال من الجبل، وهي حال مقدرة، لأنه حال النتق لم يكن فوقهم بالفعل بل صار فوقهم بالنتق، أو متعلق بنتقنا، وجملة كأنه ظلة حال من الجبل أيضا، فيكون الحال متعددا، وكأن واسمها وخبرها {وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ} يجوز أن تكون الجملة في محل جر عطفا على جملة نتقنا المجرورة بالإضافة، ويجوز أن تكون الواو حالية، وقد مقدرة، وقد تقدم مثل هذا التعبير والبحث فيه، وصاحب الحال الجبل، أي: كأنه ظلة في حال كونه مظنونا وقوعه بهم، ولك أن تجعل الواو استئنافية، فتكون الجملة مستأنفة لا محل لها، وأن وما في حيزها سدت مسدّ مفعولي ظنّ، وأن واسمها وخبرها، وبهم جار ومجرور متعلقان بواقع {خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ} جملة خذوا في محل نصب مقول قول محذوف، أي: وقلنا لهم: خذوا، وما اسم موصول مفعول به، وجملة آتيناكم لا محل لها لأنها صلة الموصول، وبقوة جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، أي: عازمين على احتمال مشاقه وكثرة تكاليفه {وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} عطف على ما تقدم، ولعلكم لعل واسمها، وجملة تتقون خبرها، وجملة الرجاء حالية {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} عطف على ما تقدم، وقد سبق ذكره، وربك فاعل أخذ، ومن بني آدم جار ومجرور متعلقان بأخذ، ومن ظهورهم جار ومجرور في محل جر بدل اشتمال من بني آدم، أو بدل بعض من كل بإعادة الجار، ومعنى إخراج ذرياتهم من ظهورهم إخراجهم من أصلابهم نسلا وإشهادهم على أنفسهم. وسيأتي بحث ذلك في باب البلاغة.
وذريتهم مفعول به {وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ} عطف على أخذ، وعلى أنفسهم جار ومجرور متعلقان بأشهدهم {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى} الجملة مقول قول محذوف، أي: قائلا، وجملة القول حالية، والهمزة للاستفهام التقريري، والتاء اسم ليس، والباء حرف جر زائد وربكم مجرور لفظا خبر ليس محلا، وجملة قالوا مستأنفة، وبلى حرف جواب، وتختص بالنفي، وتفيد إبطاله سواء أكان مجردا أم مقرونا بالاستفهام التقريري، كما هنا. ولذلك قيل: قالوا: نعم كفروا، من جهة أن نعم تصديق للمخبر بنفي أو إيجاب، فكأنهم أقروا بأنه ليس ربهم {شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ} شهدنا فعل وفاعل، وأن وما في حيزها في محل نصب مفعول من أجله، أي: فعلنا ذلك كراهة أن تقولوا، ويوم القيامة ظرف متعلق بتقولوا، وجملة إن وما في حيزها في محل نصب مقول القول، وجملة كنا خبر إنا، وغافلين خبر كنا، وعن هذا جار ومجرور متعلقان بغافلين {أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ} أو تقولوا عطف على أن تقولوا، أي: وكراهة أن تقولوا، وإنما كافة ومكفوفة، وجملة إنما أشرك آباؤنا في محل نصب مقول القول، ومن قبل جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال {وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} الواو عاطفة، وكان واسمها، وذرية خبرها، ومن بعدهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لذرية {أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} الهمزة للاستفهام الإنكاري، والفاء عاطفة، وتهلكنا فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والباء حرف جر، وتفيد السببية، وما مصدرية، وفعل المبطلون فعل وفاعل، والمصدر المؤول في محل جر بالباء.

.البلاغة:

1- في قوله: {وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة} تشبيه مرسل وفائدته هنا إخراج ما لم تجرية العادة إلى ما جرت به العادة.
2- في قوله: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم} إلى آخر الآية، أجمع علماء البيان المتأخرون على أنه لا إخراج ولا قول ولا شهادة، وإنما هذا كله محمول على المجاز التمثيلي، فقد شبّه سبحانه حال النوع الإنساني بعد وجوده بالفعل بصفات التكليف من حيث نصب الأدلة الدالة على ربوبيته سبحانه، المقتضية لأن ينطق ويقرّ بمقتضاها بأخذ الميثاق عليه بالفعل بالإقرار بما ذكر. أما المتقدمون فيقولون: إنه تعالى أخرج بعضهم من صلب بعض، وجعل لهم العقل والمنطق، وألهمهم ذلك. ولكلّ وجهة نظرهم.

.[سورة الأعراف: الآيات 174- 177]

{وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (177)}.

.اللغة:

{أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ} الإخلاد إلى الشيء الميل اليه من الاطمئنان به.
وفي المصباح: خلد بالمكان خلودا من باب قعد: أقام، وأخلد بالألف مثله، وخلد إلى كذا وأخلد إليه: ركن.
{يَلْهَثْ}: يدلع لسانه، يقال: لهث يلهث بفتح العين في الماضي والمضارع لهثا ولهاثا، وهو خروج لسانه في حال راحته وإعيائه، وهي طبيعة لازمة للكلب، وأما غيره من الحيوان فلا يلهث إلا إذا أعيا أو عطش. وفي الصحاح لهث الكلب إذا أخرج لسانه من التعب أو العطش، وقوله تعالى: {إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث} لأنك إذا حملت على الكلب نبح وولى هاربا، وإن تتركه شدّ عليك ونبح، فيتعب نفسه في الحالين، فيعتريه عند ذلك ما يعتريه عند العطش من إخراج اللسان.

.الإعراب:

{وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} الواو عاطفة، والكاف ومدخولها صفة لمصدر محذوف، وقد تقدمت له نظائر كثيرة، والآيات مفعول به، ولعلهم الواو عاطفة على محذوف تقديره: ليتدبروها، ولعل واسمها، وجملة يرجعون خبرها، وجملة الرجاء حالية {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها} الواو عاطفة على متعلق {إذ} بقوله: {وإذ أخذ}، واتل فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره أنت، وعليهم جار ومجرور متعلقان ب {اتل}، ونبأ مفعول به، والذي مضاف إليه، وجملة آتيناه صلة الموصول، وآياتنا مفعول به ثان، فانسلخ عطف على آتيناه، ومنها جار ومجرور متعلقان بانسلخ {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ} أتبع فعل ماض رباعي يتعدى لواحد فيكون بمعنى أدركه، ويتعدى لاثنين، فتكون الهاء المفعول به الأول، والمفعول به الثاني محذوف تقديره: فأتبعه الشيطان خطواته، أي جعله تابعا لها، والشيطان فاعل، فكان عطف على أتبعه، واسمها مستتر، ومن الغاوين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها {وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها} والواو حالية، ولو شرطية غير جازمة، وشيئا فعل وفاعل، واللام جواب لو، وجملة رفعناه لا محل لها، وبها جار ومجرور متعلقان برفعناه {وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ} الواو عاطفة، ولكن واسمها، وجملة أخلد خبر لكن، وإلى الأرض جار ومجرور متعلقان بأخلد {وَاتَّبَعَ هَواهُ} عطف على أخلد، وهواه مفعول به {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} الفاء الفصيحة، ومثله مبتدأ، وكمثل الكلب خبره، وإن شرطية، وتحمل فعل الشرط، وعليه جار ومجرور متعلقان بتحمل، ويلهث جواب الشرط، وأو حرف عطف، وتتركه عطف على فعل الشرط وجوابه المتقدمين، وسيأتي مزيد من القول في محل الجملة الشرطية، لطول الكلام، في باب الفوائد {ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا} ذلك مبتدأ، ومثل القوم خبره، والجملة حالية، والذين نعت للقوم، وجملة كذبوا لا محل لها لأنها صلة، وبآياتنا جار ومجرور متعلقان بكذبوا {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} الفاء الفصيحة، أي: إذا تحققت أن المثل المذكور مثل هؤلاء المكذبين فاقصصه عليهم، واقصص فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره أنت، والقصص بمعنى المقصوص مفعول به، وجملة الرجاء في محل نصب حال من الضمير المخاطب المخاطب في {اقصص}، والمعنى راجيا تفكيرهم {ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا} ساء فعل ماض جامد لإنشاء الذم، ومثلا تمييز، والقوم مبتدأ، خبره جملة ساء، ولابد من تقدير محذوف ليكون التمييز والفاعل والمخصوص بالذم كلها متحدة معنى، والتقدير: ساء مثل القوم أو ساء أصحاب مثل القوم، والذين نعت للقوم، وجملة كذبوا بآياتنا صلة. وسيأتي مزيد من القول في هذه الآية في باب البلاغة {وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ} الواو عاطفة، وأنفسهم مفعول به مقدم ليظلمون، وكان واسمها، وجملة يظلمون خبرها، ويجوز أن يكون ما بعد الواو العاطفة داخلا في الصلة معطوفا على كذبوا، بمعنى الذين جمعوا بين تكذيب الآيات وظلم أنفسهم، أو منقطعا عنها، بمعنى ما ظلموا بالتكذيب إلا أنفسهم.

.البلاغة:

في هذه الآيات فنون من البلاغة نجملها فيما يلي: وقد سماه الجاحظ:
1- المذهب الكلامي:
هذه التسمية كما ذكر ابن المعتز في كتابه وزعم الجاحظ أنه لا يوجد منه شيء في القرآن. والكتاب الكريم مشحون به. وتعريف هذا الباب هو أنه احتجاج المتكلم على ما يريد إثباته بحجة تقطع المعاند، وتفلّ سلاح المكابر المتعنت، على طريقة علماء الكلام. ومنه منطقيّ تستنتج فيه النتائج من المقدمات الصادقة. والآية المقصودة بهذا الفن هي قوله تعالى: {ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه} وترتيب المقدمتين في هذه الكلمات والنتيجة أنا نقول: ما شاء اللّه كان، وما لم يشأ لم يكن، ولو شاء اللّه رفع بلعام بن باعوراء المقصود بهذه الآية، فقد بعثه اللّه إلى ملك مدين ليدعوه إلى الإيمان، فأعطاه وأقطعه، فاتبع دينه وترك دين موسى، ففيه نزلت هذه الآية وما بعدها.
هذا ولا يكون المقصود، بالمدح أو الذم إلا من جنس المرتفع بنعم وبئس، فإن وجد كلام ظاهره مخالف لهذا الحكم فليعلم أن هناك محذوفا يذكره يرجع الكلام إلى هذا الأصل المقرر، فمن قوله سبحانه: {ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا} والقوم ليسوا من جنس المثل، فالتقدير: ساء مثلا مثل القوم، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وعلى هذا يقاس.
2- التشبيه التّمثيليّ:
في قوله: {واتل عليهم نبأ الذي آتيناه} إلى آخر الآية، فقد شبه حال من أعطي شيئا فلم يقبله بالكلب الذي إن حملت عليه نبح وولى ذاهبا، وإن تركته شدّ عليك ونبح، فإن الكلب يعطي الجد والجهد من نفسه في كل حالة من الحالات، وشبه رفضه وقذفه لها ورده لها بعد الحرص عليها، وفرط الرغبة فيها، بالكلب، إذا رجع ينبح بعد اطرادك له وواجب أن يكون رفض الأشياء الخطيرة النفيسة في خدن طلبها والحرص عليها، والكلب إذا أتعب نفسه في شدة النباح مقبلا عليك ومدبرا عنك لهث واعتراه ما يعتريه عند التعب والعطش.

.الفوائد:

الجملة الشرطية في محل نصب على الحال، أي: لاهثا في الحالتين، قاله الزمخشري وأبو البقاء. قال بعضهم: وأما الشرطية فلا تقع بتمامها موقع الحال، فلا يقال: جاء زيد إن يسأل يعط، على الحال بل لو أريد ذلك لجعلت الشرطية خبرا عن ضمير ما أريد الحال عنه، نحو: جاء زيد هو وإن يسأل يعط، فيكون الواقع موقع الحال، ولكن بعد ما أخرجوها عن حقيقة الشرط. وتلك الجملة لم تخل من أن يعطف عليها ما يناقضها أو لم يعطف، والأول ترك الواو مستمرا فيه، نحو: أتيتك إن أتيتني وإن لم تأتني، إذ لا يخفى أن النقيضين من الشرط في مثل هذا الموضع لا يبقيان على معنى الشرط، بل يتحولان إلى معنى التسوية، كالاستفهامين المتناقضين في قوله: {أأنذرتهم أم لم تنذرهم}، وأما الثاني فلابد فيه من الواو، نحو: أتيتك وإن لم تأتني، ولو ترك الواو لالتبس بالشرط حقيقة، فقوله: {إن تحمل عليه يهلث أو تتركه يلهث} من قبيل الأول، لأن الحمل عليه والترك نقيضان. وهذا من أدق المباحث فتأمله لأنه جدير بالتأمل.